
مدينة سرجيلا الأثرية في ريف ادلب
يتعاظم الميل لتأييد دور التراث الثقافي في تحقيق المصالحة وتعزيز الشعور بالهوية، وإعادة البناء الاجتماعي في مرحلة ما بعد النزاعات المسلحة، وإن كان هذا الدور لا يزال محلَّ جدالٍ لم يتم الفصل فيه بشكل مطلق على المستوى الدولي.
وقد برز هذا الموضوع كمسألة إشكالية منذ منتصف القرن الماضي، الذي شهد حروباً ونزاعات مسلحة دموية بدءاً من الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى العديد من الحروب الأهلية التي قامت في دول مختلفة من العالم، على خلفية انقسامات مجتمعية إثنية أو دينية. وكان أن أدت هذه الحروب في كثيرٍ من الأحيان، على المستوى الثقافي، إلى تدميرٍ جزئيٍ أو كليٍ للمعالم الثقافية المبنية في مناطق النزاع ونهب القطع التراثية وحرق المكتبات، جرّاءَ الاستهداف المقصود أحياناً للتراث الثقافي، أو غير المقصود أحياناً أخرى.
تعود إشكالية هذه المسألة إلى عدم اليقين بأهمية عملية إعادة إحياء التراث الثقافي في مرحلة إعادة الإعمار، نظراً لصعوبة قياس الأثر الناجم عن هذه العملية كميّاً، وفي ظل ارتفاع تكاليف إعادة إحياء التراث وندرة الخبرات العاملة في هذا المجال، كل ذلك أدى إلى نشوء ميلٍ نسبيٍ إلى تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية (الغذاء والسكن والخدمات الصحية) للسكان المحليين المتضررين من الحروب كأولوية أساسية، وتأجيل إعادة إحياء التراث إلى مراحل لاحقة باعتبارها ترفاً لا يمكن تحقيقه بعد الحرب مباشرة. إلا أنه، وفي المقابل، تتنامى النزعة نحو اعتبار إحياء التراث الثقافي ضرورة لا ينبغي تأجيلها، نظراً للدور الهام الذي يلعبه العامل الثقافي في إعادة البناء الاجتماعي وإعادة الشعور بالهوية وتحقيق المصالحة في المجتمعات المنقسمة، دون المساس طبعاً بأولوية تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية.
إعادة إحياء التراث ضرورة أم ترف؟
تترك النزاعات المسلحة آثاراً كارثية على المستوى الاجتماعي، حيث ينعدم الإحساس بالأمان، وتنعدم الثقة بين الفئات الاجتماعية المختلفة وتختل العلاقات فيما بينها ويطبعها الريبة والخوف، ويضعف الشعور بالانتماء والهوية. كما تؤدي عمليات النزوح المستمرة من مناطق النزاع المسلح إلى مناطق أخرى أكثر أمناً، أو إلى دولٍ أخرى، إلى حصول تغييرات ديمغرافية عميقة قد تؤدي إلى تغييرات هامة في خصائص المجتمع الواقع تحت الحرب، وتطفو على السطح مشكلات اجتماعية خطيرة كالبطالة وفقر الجوع والتسول والتشرد والسرقة والقتل والجريمة بشكل عام.
وعلى المستوى الثقافي، تُحدِثُ النزاعات المسلحة خسائر فادحة، حيث يتعرض التراث الثقافي في مناطق النزاع المسلح للتدمير الجزئي أو الكلي، ونهب القطع الأثرية، وحرق المكتبات، إلى غير ذلك من الخسائر. كما تؤدي الحرب أيضاً إلى اندثار التراث اللامادي أحياناً، أو تغيّره بسبب التغيرات الديمغرافية الحاصلة في المجتمع، والتي يسببها النزوح أو اللجوء إلى دول أخرى. كما تستهدفُ الحربُ الاستمراريةَ في العلاقات الاجتماعية، التي تحقق الترابط بين الأجيال وتؤمّن استمرار القيم الثقافية بما فيها ثقافة الحياة اليومية، وانتقالها عبر الأجيال «Thread of Continuity».
ومن جهة أخرى، تتغير العادات والسلوكيات الاجتماعية وأنماط التفكير بفعل الحرب، حيث يتم تقبل سلوكيات كانت مرفوضة سابقاً كالسرقة مثلاً، على حساب تراجع مفاهيم مثل الأخلاق أو الفخر والاعتزاز بالتراث الثقافي، لتبدو سرقة القطع التراثية مثلاً مبررةً في زمن الحرب.
وتأتي أهمية التراث الثقافي من أن مساهمته في إعادة الإعمار، تتخطى ترميم المباني العمرانية المتضررة بالحرب واستعادة التراث المسروق، حيث تساهم إعادة إحياء التراث الثقافي في إعادة البناء الاجتماعي في المجتمعات الخارجة للتو من الحرب، فهو يساعد على تأكيد الشعور بالهوية ويساهم في تحقيق مفاهيم التسامح والمصالحة وبناء الثقة في المجتمع المنقسم، مما يسرّع في عودة اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم التي تركوها أثناء الحرب، ويساهم في عودة الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
بالإضافة إلى ذلك، تؤمن مشاريع الترميم للمباني والمعالم التراثية فُرَصَ عملٍ للشباب في المجتمعات المحلية، في قطاع البناء بشكل خاص، مما يساهم في تخفيض معدل الفقر وإنعاش الاقتصاد الذي أنهكته الحرب، سيما وأـن هذه المشاريع تعمل على مجال زمني طويل نسبياً. هذا، بالإضافة إلى مساهمتها في نقل الخبرة العملية «know-how» من المنظمات الدولية إلى الخبراء المحليين. وبذلك، يبدو إحياء التراث الثقافي ضرورة تستوجب العمل عليها في المراحل المبكرة لإعادة الإعمار بعد الحرب.
ماهية التراث الثقافي المستهدف بعملية إعادة الإحياء
تتركز جهود إحياء التراث في معظم الأحيان، في مرحلة ما بعد النزاع المسلح، على ترميم المباني التي تعدُّ تراثاً ثقافياً، وتغفل الاهتمام بإحياء الذاكرة الجمعية للمجتمعات الخارجة من الحرب، رغم أنها هي من يعطي هذه المباني التراثية قيمتها أساساً، مما لا يساعد على تحقيق الأهداف المرجوّة منها.
وبشكلٍ عام، هناك ميلٌ لدى المجتمعات المحلية لاسترداد التراث الثقافي المسروق وإعادة، إحياء التراث المتضرر بالحرب، بما فيه التراث الذي كان مندثراً أو يكاد قبل الحرب، كالحرف التقليدية والكرنفالات والاحتفالات التقليدية. وهذا الميل يلبي حاجة اجتماعية-نفسية لاستعادة الأشياء ذات الأهمية الاجتماعية والروحية، والتي افتقدها المجتمع مع توقف الحياة الطبيعية اليومية طيلة سنوات الحرب، لأن استعادة هذه الأشياء يوحي بعودة الحياة إلى طبيعتها كما كانت قبل الحرب.
على ذلك، يتوجب الاهتمام بالتراث الثقافي بشقّيه المادي واللامادي في مرحلة إعادة الإعمار.
التراث الثقافي المادي
تأتي أهمية التراث الثقافي المادي المبني من قيمته التاريخية، كالأسواق والأحياء والبيوت السكنية القديمة تاريخياً، والمعالم التراثية والنصب التذكارية وغير ذلك، أو من وظيفته الأصلية التي حملها منذ إنشائه «Original Function»، كالمراكز الدينية من مساجد وكنائس ودور العبادة الأخرى. وينبغي عدم إغفال كلا النوعين خلال عملية الترميم، لأن التراث الثقافي المادي ذو القيمة التاريخية يمكن أن يشكل عاملاً جامعاً تلتقي عليه كافة أطياف المجتمع، بينما يعتبر ترميم الموقع الثقافي الديني ضرورياً بسبب دور الأديان الهام في تشكيل ثقافة المجتمع.
إلا أن نقص التمويل والخبرات الضرورية العاملة في مجال إحياء التراث الثقافي، يشكل عائقاً أمام تنفيذ مشاريع الترميم وإعادة البناء لكل المواقع والمعالم التراثية المادية المتضررة بالحرب، مما يضعنا أمام سؤالٍ شائك: من أين نبدأ؟ وما الذي يحوز على أولوية الترميم من مكونات التراث المبني، المواقع التراثية (التاريخية أو الدينية)، أم البيوت السكنية التراثية؟
تحظى البيوت السكنية بأهمية خاصة اجتماعية وروحية، تستمدها من قيمتها الشخصية، وذلك بسبب دورها الهام في تأكيد الشعور بالأمان والانتماء والاستقرار والهوية. وفي سوريا بشكل خاص، نلاحظ ارتباط أفراد الأسرة بمنزل العائلة إلى حدٍّ كبير، وفي وقتنا الحالي يمكن أن يتكبد أفراد العائلة تكاليف تسديد قروض مصرفية لعقدين من الزمن أحياناً، مقابل حصولهم على ملكية منزل للعائلة، مما يعكس أهميةً استثنائيةً للبيوت السكنية. وضمن السياق نفسه، أثبتت التجارب في دول متعددة تعرضت للحروب، أن اللاجئين الذين يفرون من ويلات الحرب إلى دول أخرى، يحملون معهم غالباً مفتاح المنزل الذي تركوه بسبب الحرب، وكمثال على ذلك نجد أن معظم اللاجئين الفلسطينيين يعلّقون اليوم مفاتيح بيوتهم التي تركوها وراءهم في العام 1948 على جدران بيوتهم في مخيمات اللجوء، كما أن القبارصة اليونانيين احتفظوا أيضاً بمفاتيح بيوتهم خلال فترة لجوئهم، وبعضهم خبأها في أماكن سرية قبل المغادرة على أمل العودة ثانية إليها، مما يؤكد على أن الارتباط بالمنزل أحد أهم الروابط الإنسانية الأساسية.
انطلاقاً من هذه الفرضية، يمكن إعطاء الأولوية في ترميم التراث المبني للبيوت السكنية ذات القيمة التراثية والمتضررة بالحرب، والبيوت الأثرية في أحياء المدينة القديمة بحلب مثالاً. وفيما عدا البيوت السكنية، يمكن اختيار مواقع تراثية محددة وترميمها في المرحلة الأولى، على أن يكون الاختيار مدروساً بحيث يحقق أفضل نتائج ممكنة على طريق تشجيع عودة اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم وتحقيق الاستقرار والسلم الأهلي، على أن يتم استكمال أعمال الترميم لكافة المواقع التراثية على المدى البعيد. ويجب أن يتم توضيح هذه المنهجية على المستوى الشعبي، لضمان تحقيق فهمٍ عامٍ لمراحلها وتأمين الدعم الشعبي اللازم لعملية إحياء التراث الثقافي وإعادة الإعمار. كمثال على المعالم التراثية ذات البعد التاريخي، يمكن أن نذكر الجسر المعلق في دير الزور، وسوق المدينة القديمة في حلب. وفيما يخص المراكز الدينية، نذكر على سبيل المثال الجامع الأموي في حلب وكنيسة أم الزنار في حمص.
وفي هذا السياق، يجدر التأكيد على ضرورة القيام بعملية الترميم بطريقة رصينة، بحيث لا تؤدي إلى إحداث تغييرات في المباني التراثية سواء في مظهرها أو في وظائفها وطبيعة استخدامها. ففي البوسنة مثلاً، تمت إضافة مآذن جديدة للمساجد خلال أعمال الترميم، مما أحدث تغييراً في المشهد الثقافي التقليدي، كما تم تغيير الطوائف المستخدِمة للكنائس بعد الترميم وبذلك لم تحافظ أعمال الترميم على دور الكنيسة السابق، وفي هذا خروج لهذه المباني عن العمارة المحلية التقليدية وعن الدور الثقافي التاريخي.
التراث الثقافي اللامادي
يتسم التراث الثقافي اللامادي في المجتمع السوري بالتنوع والغنى نظراً لتعدد الثقافات المكونة له، ويندرج تحته عناوين مختلفة، كالممارسات والطقوس الاجتماعية والفنون وتقاليد أداء العروض وأشكال التعبير الشفهي والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون. وهذا يتطلب البحث الجدّي في هذا المخزون، واختيار مكونات التراث الثقافي اللامادي التي أوشكت على الاندثار والعمل عليها لإعادة إحيائها في المجتمعات المحلية المختلفة، بالشكل الذي يضمن الحفاظ على حيوية التراث الثقافي وتجدده وانتقاله عبر الأجيال من خلال حصره وتوثيقه ونشر المعرفة به، واحتضان ودعم المبادرات الأهلية المهتمة بحفظ التراث على ندرتها (1)، وكذلك دعم الأفراد العاملين فيه وتشجيعهم على الاستمرار في إنتاجه، ونقل هذه المعرفة/الخبرة لأشخاص آخرين لضمان استمراريتها. مع التركيز على أن الدعم هنا لا يتم تقديمه لفرصٍ مولدةٍ للدخل (كون هذه المهارات لن تستطيع على الأغلب منافسة الأساليب المعاصرة)، وإنما للحفاظ على هذه المهارات كقيمة ثقافية حافظة للهوية.
وعلى مستوى القيم الثقافية المجتمعية والإنسانية، تبرز الحاجة في مرحلة إعادة الإعمار إلى إطلاق مشروع ثقافي كبير عنوانه العريض «إعادة إحياء التراث الثقافي والقيم الثقافية المجتمعية والإنسانية». يهدف المشروع إلى إحياء وتنشيط حركة الإبداع الثقافي في المجتمع السوري، لتعزيز الثقافة المدنية ونشر القيم الثقافية المجتمعية والإنسانية العالية، التي تعزز ثقافة المحبة والسلام والتسامح واحترام التنوع والاختلاف، وتنبذ الصراعات والانقسام والتطرف والإقصاء، ويمكن للمسرح أن يشكّل أحد الحوامل الثقافية الأساسية لهذا المشروع.
المسرح
تقوم الفكرة على صياغة مشروعٍ مفتوحٍ للعمل، بمعنى أن يقوم المشروع بطرح عنوان كبير كتوجه عام يتضمن توضيحاً للوظائف والمحددات المبدئية للمسرح الجديد، وسلسلة المفاهيم والقيم الثقافية المجتمعية المطلوب تكريسها وتعزيزها في المجتمع، كأفكار السلام والمحبة والحب والتسامح والتضامن والحرية واحترام التنوع والاختلاف ورفض التقاليد البالية والتطرف والجمود، وتقبّل الأفكار الجديدة. بمعنىً آخر، محاولة توجيه العروض لتقديم الأفكار الإنسانية والنظيفة، وتحميل هذه الأفكار مضامين إحياء التراث الثقافي والحفاظ عليه، دون التدخل في مواضيع المسرحيات والنصوص ونوع المسرح، حيث تُترك هذه التفاصيل للفرق المسرحية، على أن يتم تقديم هذه الأفكار بسلاسة ودون استخدام لغة مباشَرة تلقينية فجّة.
وتُعدُّ الفرق المسرحية الجديدة (التي تضم عناصر شابة من الخريجين الجدد وطلاب التخرج والهواة) هي الأفضل لتقديم هذا المشروع، نظراً لكونها منفتحةً وطموحةً لبناء مستقبلها وتحقيق ذواتها، وغير متطلبة مادياً.
ولا نعني بالمسرح هنا المسرح التقليدي أو ما يسمى الخشبة الثابتة، بسبب صعوبة نشر هذا النوع من المسارح على جميع المناطق السورية وارتفاع كلفته المادية، وبسبب وجود حاجزٍ نفسيٍ يمنعُ شرائح عريضة من المجتمع من ارتياد المسرح الذي يستهدف أساساً فئات محددة، مما لا يسمح بتحقيق أهداف المشروع. بل نعني المسرح الشعبي بأنواعه الجديدة المختلفة (مسرح الشارع والمسرح الجوال والمسرح التفاعلي) دون إلغاء مسرح الخشبة الثابتة الذي ترتاده فئات مجتمعية محددة.
يقوم المسرح الجوال على تقديم عروض مسرحية على خشبة متنقلة، مجهزة بتجهيزات الصوت والإضاءة في الهواء الطلق في الحدائق والساحات العامة. ويتميز هذا المسرح بانخفاض تكلفته نسبياً عن مسرح الخشبة الثابتة، وسهولة تنقّله ونشره على كامل المناطق السورية، كما يتميز بكسره للحاجز النفسي الذي يمنع الجمهور المتلقي من الذهاب للمسرح، وتكلُّف عناء المواصلات وتكلفة تذكرة العرض، حيث نجد هنا أن المسرح يأتي للجمهور وليس العكس. وهكذا يتم تقريب الجمهور من المسرح وتقديم أفكار لا يمكن تقديمها بصورة شعبية في دور الأوبرا على الخشبة الثابتة، مما يحقق صلة وعلاقة جديدة بين الثقافة والمتلقي العادي في الشارع. وعادةً يكون المسرح الجوال مجانياً، ولذلك فإنه يقوم عادة على فرق الهواة وطلاب المعهد المسرحي والفرق الجديدة، التي ترغب بتحقيق شهرة في الأوساط الشعبية. إلا أنه يمكن أن يكون ربحياً أيضاً باستخدام الإعلان عن منتج تجاري ما (وضع بوسترات مثلاً للترويج لسلعة ما خلف مكان العرض).